وإذا كانت مبادرة بكين المشار إليها، منذ إطلاقها في عام 2003، وإضفاء تعديلات متلاحقة عليها، قد اصطدمت لسنوات خلت بعدد من العراقيل أبرزها الحضور الأميركي القوي في المنطقة، واختلال موازين القوى الفادح لمصلحة الإسرائيليين، فإن أحداث غزة الأخيرة، المتزامنة مع انكفاء أميركي ملحوظ، توازياً مع اتّساع حجم المصالح الاقتصادية والروابط السياسية للصينيين مع دول المنطقة، وما تراه بكين انسياقاً من جانب تل أبيب في الحملة الغربية ضدّها في قضيّة الأويغور، تؤسّس لتغيير في تلك الموازين لمصلحة الجانب الفلسطيني، وتغيير المعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط.
ينصّ مشروع القرار الروسي بصورة أساسية على وقف إطلاق النار في غزة، وتوفير ممرّ آمن لدخول المساعدات الإنسانية
وفي مقابل ما يُشاع حول نيّة البرازيل تقديم مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي حول التطوّرات في غزة، يحمل إشارات إدانة صريحة لعملية «حماس»، كان فريق البعثة الروسية الدائمة في المجلس قد أنهى، يوم الجمعة الماضي، توزيع مشروع قرار مقابل على الهيئة الأممية، مبدياً، في الوقت ذاته، انفتاحه على مناقشة نصّ المشروع مع الأعضاء الآخرين. علماً أنه، وخلافاً للمقترح الذي تعتزم البرازيل تقديمه، لا يتطرّق المشروع الروسي بصورة سلبية مباشرة إلى حركة المقاومة الفلسطينية. ويأتي ذلك في ظلّ مواصلة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، «ديبلوماسيته الشرقية»، بعد كشف السفير الفلسطيني لدى روسيا، عبد الحفيظ نوفل، عن زيارة مرتقبة لعباس إلى موسكو، لم يُحدّد موعدها بعد من جانب الكرملين. وكان «أبو مازن» قد زار، في حزيران الماضي، العاصمة الصينية، والتقى الرئيس شي جين بينغ، في وقت كان يستعدّ فيه الأخير إلى لقاء مرتقب مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في الشهر الجاري، قبل أن يحتلّ العدوان على غزة الصدارة على سلّم الأولويات لقادة كيان الاحتلال.
وإذ لا موعد محدّد بعد لعقد جلسة التصويت على المشروع الروسي، في انتظار تبلور مواقف الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي حياله، وإبداء ملاحظاتها عليه، فالجدير ذكره، أن هذا المشروع، الذي وُزّع في جلسة مشاورات مغلقة للمجلس انعقدت بناءً على طلب البرازيل بصفتها رئيسته للشهر الجاري، جاء بعد نحو أسبوع من إخفاق أعضائه في جلسة سابقة في إصدار قرار أو بيان حول تطوّرات الأوضاع في غزة، وذلك على وقع إصرار الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، على إدانة «حماس»، وتوفير دعم غير مشروط لإسرائيل داخل أروقة الأمم المتحدة في عدوانها المتواصل ضدّ الفلسطينيين. وهو أمر رفضه أعضاء آخرون في المجلس، وفي طليعتهم روسيا، لأسباب لا تزال تصرّ عليها الأخيرة، جوهرها السعي إلى إيجاد إجماع أوسع بين هؤلاء الأعضاء حول جملة نقاط متّصلة بوقف فوري لإطلاق النار، والدفع بتسوية جدّية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وفقاً لمرجعيات التسوية الدولية، عوض التركيز على إدانة «حماس». ولم يكن مستغرَباً أن تسارع الصين، بعد الجلسة المذكورة، وفي معرض التساوق مع موقف روسيا، إلى انتقاد غياب الإجماع بين أعضاء مجلس الأمن حول هذه المسألة، حيث كال الديبلوماسيون الصينيون انتقادات لاذعة لتل أبيب، بالتوازي مع مناخ عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي داخل بكين، جارى الموقف الرسمي، ودلّل على حالة الاستنكار العارم للجرائم الإسرائيلية.
كذلك، جرى التداول بتسريبات في خصوص مشروع القرار المقترح روسيّاً، تفيد بأنه ينصّ بصورة أساسية على وقف إطلاق النار في غزة، وتوفير ممرّ آمن لدخول المساعدات الإنسانية، إضافةً إلى إيلاء الأهميّة لملفّ الأسرى، وإدانة «الإرهاب»، مع الدعوة إلى تسوية «سلمية» للصراع داخل الأراضي المحتلّة. ووفقاً لمحلّلين، فإن هذه «الانتفاضة» الديبلوماسية الروسية في وجه كيان الاحتلال، تحمل دلالات حول مدى تنامي علاقات موسكو مع طهران وحلفائها في «محور المقاومة»، بخاصّة على المستوى العسكري، وإحباط الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من نهج «صديقه»، نتنياهو، حيال حرب أوكرانيا، على وقْع تقارير حول ضغوط أميركية على تل أبيب لتزخيم دعمها لكييف. ومع هذا، لا يمكن الجزم على أيّ نحو بأن روسيا في صدد الإقلاع عن تأييد «اللازمة» التي لا ينفكّ الغرب يردّدها حول «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، والتنديد بقتل «المدنيين المسالمين»، وهو ما جاء في تصريحات للسفير الروسي لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نابينزيا. لكن ما استرعى الانتباه في حديثه، هو استنكاره ترويج الإعلام الغربي لرواية منحازة لحساب طرف واحد، تقوم على مزاعم مهاجمة «إرهابيين» فلسطينيين لـ«مدنيين» إسرائيليين، مؤكداً أن الغرب يتجاهل جانباً ممّا سمّاه «مأساة ذات وجهَين». أيضاً، لم يوفّر الديبلوماسي الروسي واشنطن من سهام نقده المباشر، إذ أشار إلى أن الولايات المتحدة عرقلت عمل الوسطاء الدوليين في الشرق الأوسط، بهدف فرْض أجندتها الخاصّة القائمة على تطبيع اقتصادي بين العرب والإسرائيليين، من دون إيجاد حلّ للصراع، في إشارة إلى تجاهل «اتفاق أوسلو» القائم على أساس دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.